كانت سنة 1897 سنة فاصلة في حياة رودلف ديزل حين أعلن في اجتماع لرابطة المهندسين الألمان عن نجاح اختراعه و جهوزيته للبيع و الاستعمال، وذلك قبل أن يقدم لهم في العام الموالي نسخا محسنة من محركه.
كان المحرك الذي عرضه باسطوانة واحدة و بقوة 25 حصان، مع مردودية تساوي 26.2% وهو رقم غير مسبوق في كل المحركات الحرارية آنذاك. لتفسير هذا الأمر يقول رودلف ديزل عن محركه: " إنها نسبة الانضغاط العالية التي كانت سببا في تقليل الاستهلاك، عندما يكون الهواء مضغوطا فإن هذا سيرفع من درجة الحرارة الناتجة عن الاحتراق، و بالتالي ستتمدد الغازات أكثر لتضغط بقوة أكبر على المكابس و العمود المرفقي". و يمكننا أن نظيف إلى قوله بأن موجة الضغط التي تنتج عن الاحتراق لا تفقد كثيرا من قوتها عندما تولد في غاز مضغوط، و هذا على عكس محركات البنزين و التي في الحقيقة تولد درجة احتراق أكبر من محركات الديزل و لكن يحدث احتراق البنزين في هواء أقل ضغطا. طبعا لن نكون أكثر دقة و صحة من رودلف ديزل نفسه لتفسير محركه، لكنه كان معذورا كونه لا يمتلك أدوات القيس الدقيقة الموجودة اليوم و التي ساعدت في فهم تكون القوة الدافعة للغازات المحترقة و في فهم ظاهرة محرك الديزل عموما.
على كل، انهالت عليه العروض من كل أوروبا و من أمريكا لشراء رُخص تصنيع و بيع محرك الديزل، و هذا مما جعل من رودلف ديزل مليونيرا في وقت وجيز. كانت المؤسسات التي ساعدت رودلف في أبحاثه و هي مؤسسات "مان" و "كروب" في ألمانيا و مصنع "سولزر" في سويسرا أول من صنع محركات الديزل في العالم و هي إلى الآن تعتبر مجموعات صناعية عملاقة من حيث حجم المعاملات. كما أسندت أول رخص التصنيع في أمريكا الشمالية إلى أدولفوس بوش المهاجر الألماني مقابل مليون مارك أي ما يعادل 6 ملايين دولار بسعر الصرف اليوم.
سنة 1898 و عند بلوغه الأربعين، أسس رودلف ديزل مؤسسة أطلق عليها اسم مؤسسة ديزل العامة و ذلك لإدارة و بيع رخص تصنيع محركات الديزل و تطويرها حيث جلبت له مرابيح بأكثر من 20 مليون دولار بسعر الصرف اليوم من بيع رخص التصنيع و الاستغلال، في نفس السنة تم تشخيص حالة إرهاق عصبي لدى رودلف ديزل مما حتم عليه قضاء فترة من الوقت في مؤسسة استشفائية قبل أن يغادرها عندما لم يشعر بتحسن. فرض عليه الأطباء الراحة في جبال الآلب، في تلك الفترة زاره ممثل عن عائلة نوبل مكتشف الديناميت و أخبره أن بإمكانهم توفير الوقود المناسب لمحركاته، استثمر رودلف ديزل في شركات نفطية على ملك عائلة نوبل، و طور محركاته لتعمل بالكيروزين و بالوقود الثقيل المشابه لوقود الديزل المستعمل اليوم، لكن الاستثمارات النفطية لم تكن ناجحة و كلفته جزءا كبيرا من ثروته.
انتقل رودلف و عائلته إلى فيلا فخمة في وسط ميونيخ و أصبح من صفوة المجتمع، حيث أصبح يحضر حفلات الأوبرا و يمارس هوايات عديدة كالتصوير الفوتوغرافي.
واجهت مؤسسة ديزل العامة مخاطر الإفلاس إلى أن أقفلت بسبب فشله في تصنيع و بيع الحد الأدنى من المحركات و كذلك بسبب صعوبة التواصل مع المهندسين الذين انتدبهم رودلف ديزل لتطوير محركه.
سنة 1900 شارك رودلف ديزل في المعرض الدولي في باريس المسمى "Exposition universelle" حيث احتفل في دورته الاستثنائية بنهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين و كان شعار الدورة هو التشجيع على التكنولوجيات الحديثة التي ستميز القرن الجديد، زار المعرض أكثر من 50 مليون زائر و فاز محرك الديزل بالجائزة الأولى حيث تم تشغيله بزيت الفول السوداني.
أول استعمال صناعي لمحرك الديزل كان في النمسا في آلات الحفر و التنقيب عن النفط سنة 1898. سنة 1905 صنعت مؤسسات "مان" التي تخلت عن تصنيع المحركات البخارية أول محطة لتوليد الكهرباء في العالم تعمل بمحركات الديزل في كياف عاصمة أوكرانيا حاليا.
كما أبدت مصانع السفن شيئا فشيئا اهتمامها بمحركات الديزل. سنة 1903 حضر رودلف ديزل أول انطلاق رسمي لمركب سياحي نهري و الذي يعتبر أول وسيلة نقل في العالم تسير بمحرك ديزل، في نفس السنة اشترت البحرية البريطانية أول المحركات. في سنة 1905 تمت تجربة محركات الديزل في القطارات و في نفس السنة تم تطوير الشاحنات التوربينية و مبردات الهواء "Turbocharger and intercooler"، في سنة 1908 تم صنع أول مضخة ميكانيكية لوقود الديزل في مؤسسة "دوتز" قبل تطويرها من روبرت بوش بعد سنوات تحديدا سنة 1925 بصفة جذرية و حاسمة. في سنة 1909 تم تطوير غرف الاحتراق الغير مباشر "Indirect injection" في مؤسسة "دوتز" لتقليل صوت المحرك. سنعود لهذا بالتفصيل التقني إن شاء الله.
سنة 1910 كانت السفينة النرويجية "فرام" أول سفينة بحرية ذات حمولة ثقيلة تسير بمحرك ديزل ثانوي مع محرك بخاري أوّل، قبل أن تسير السفينة الدانماركية "سلنديا" سنة 1912 حصريا بمحرك الديزل.
قبيل الحرب العالمية الأولى التي دقت طبولها أبدت كل جيوش أوروبا اهتمامها آنذاك بمحرك الديزل لقلة استهلاكه وعزمه القوي، و ربما كانت هذه الصراعات سببا في نهاية رودلف ديزل التراجيدية كما يقر كثير من المؤرخين. كانت هذه المحركات تمثل الحل الأفضل للغواصات البحرية في تلك الفترة حيث أصبحت تعتمد على محركات الديزل عندما تكون فوق السطح و محركات كهربائية عندما تكون في الأعماق. طبعا محركات البنزين كانت موجودة آنذاك لكنها مستعملة بقلة بسبب مخاطر الاحتراق الموجودة فيها و ارتفاع نسبة استهلاكها للوقود، علاوة على الغازات السامة المنبعثة من محركات البنزين و خاصة أحادي أكسيد الكربون القاتل و هذا لا يناسب الفضاءات المغلقة كالسفن و المناجم مثلا.
إضافة للضغوط السياسية التي عانى منها في أجواء ما قبل الحرب العالمية الأولى في العشرية الأولى من القرن العشرين، تعرض رودلف ديزل لانتقادات عديدة بسبب فشله في تطوير محرك الديزل بالسرعة المطلوبة مما أثر على نفسيته و على صحته. في البداية كان تصنيع محركات الديزل صعبا على بعض المؤسسات التي اشترت رخص التصنيع، فاضطر رودلف ديزل للسفر في أرجاء أوروبا و أمريكا للمساعدة على تلافي الإشكاليات التقنية مما زاد في تدهور حالته الصحية المرهقة أصلا.
في أول القرن العشرين و تحديدا في سنة 1902 كان قد تم تصنيع 359 محرك ديزل في العالم أغلبها ثابتة و تولد قوة بمعدل 35 حصانا تقريبا. رودلف ديزل نفسه كان يطمح باستعمال محركه في السيارات على خلاف ما تروجه بعض المصادر، لكن محاولاته باءت كلها بالفشل بسبب ثقل المحرك حيث يزن أحدث محرك تم تطويره في حياة رودلف ديزل حوالي 250 كيلوغرام لكل 1 قوة حصانية و هذا يرجع لصلابة المحرك كي يتحمل الضغط العالي في الاسطوانة. كان لا بد من قسمة هذا الرقم على عشرين تقريبا لتركيب محركات ديزل على عربات تسير على الطريق و هذا كان محبطا لنفسية رودلف ديزل، و لكن تبقى المشكلة التقنية الأولى هو نظام ضخ الوقود داخل الاسطوانة حيث كان يتم اعتماد أنظمة ثقيلة لضغط الهواء اللازم لرش الوقود والتي شكلت عائقا أمام رفع سرعة الدوران و زادت في وزن المحرك، المضخة التي تم تصنيعها في معامل "دوتز" لم تفي بالغرض و كان هذا طبعا قبل تطوير مضخات الديزل الميكانيكية من روبرت بوش سنة 1925 كما ذكرنا.
معاناة رودلف ديزل في سبيل تطوير محركه أرهقت صحته و سببت له أزمات صداع و انهيارات نفسية مما استوجب كما ذكرنا إقامته في مؤسسات استشفائية و ابتعاده للإقامة في جبال الآلب لبعض الوقت. كذلك شعر رودلف ديزل بالمذلة و الإهانة عندما تجاهل من كان يظنهم من المقربين كتابه الإصلاحي "التضامن: الخلاص الاقتصادي الطبيعي للإنسان"، إحساس بالمرارة لم يمنعه في النهاية من إصداره على حسابه الخاص بعد رفضه من دور النشر. في هذا الكتاب نشر أفكاره حول دور المؤسسات الصناعية في تحقيق العدالة الاجتماعية و كسر احتكار العلوم و الثروة، النظرية التي عادت بقوة في أوائل القرن العشرين في ما بعد لتكون أساس الاقتصاد الألماني الذي عرف آنذاك بالاقتصاد الاجتماعي، و هذا مما جعل المؤسسات الصناعية الألمانية تعتبر كأفضل المؤسسات في العالم التي تستقطب و تكون المتدربين المبتدئين لمنحهم فرص حياة أفضل، فقد كان رودلف ديزل يعتبر مشروعه الاجتماعي أكثر أهمية من محركه الذي لم يخترعه إلا لخدمة و تحقيق نظرته للعدالة الاجتماعية. لكن ما حصل أن المؤسسات الكبرى ربما استفادت في النهاية أكثر من الحرفيين الصغار بمحرك الديزل الاقتصادي و القوي. أكثر من ذلك، جيوش أوروبا و أمريكا كلها طمعت في استغلال محركه في سفنها الحربية و الغواصات البحرية لتستعد للحرب العالمية الأولى التي دقت طبولها إيذانا بحرب مدمرة، كل هذا كان محبطا لرودلف ديزل ذو النفسية الحساسة شأنه شأن كل عبقري مبدع، و ما زاد في تدهور حالته النفسية خسارته لكل الثروة التي جمعها بسبب قلة موهبته في التصرف مع المال.
سياسيا كان رودلف ديزل قريبا من فرنسا و معارضا للسياسات التوسعية للإمبراطور الألماني، في سنة 1913 صنعت فرنسا أول غواصة حربية تعمل بمحرك الديزل، و كانت للولايات المتحدة غواصتها الحربية في نفس السنة. لم يقبل رودلف ديزل منح رخصة التصنيع للامبراطور الألماني لتجهيز غواصات ألمانيا، و ذلك بسبب سياسته التوسعية و الحربية كما قلنا و التي عارضها رودلف ديزل، في السنة الموالية أي 1914، جهزت ألمانيا غواصاتها بمحركات الديزل بعد الحدث التراجيدي الآتي ذكره.
في 29 سبتمبر سنة 1913، استقل رودلف ديزل سفينة SS Dresden من بلجيكا للتوجه إلى بريطانيا لحضور اجتماع مقرر في مصنع محركات الديزل بلندن the Consolidated Diesel Manufacturing company ، غادر رودلف طاولة العشاء على الساعة العاشرة ليلا ثم توجه إلى غرفته على ظهر السفينة طالبا إيقاظه على الساعة السادسة و الربع صباحا. في الصباح وجدت غرفته فارغة و فراشه مرتب، و لم يشاهد رودلف ديزل حيا بعد ذلك اليوم.
بعد عشرة أيام لاحظ طاقم سفينة صيد هولندية جسدا يطفو في مياه بحر الشمال، كان الجسد في حالة تحلل متقدمة، تم أخذ بعض الأغراض الشخصية: علبة حبوب دواء، نظارات، محفظة صغيرة و سكين جيب ثم تم إغراق الجثة في أعماق المحيط. في الثالث عشر من أكتوبر تم التعرف على الأغراض على أنها تتبع رودلف ديزل، إلى اليوم لا يعرف سبب موته إن كان انتحارا أو اغتيالا، تاركا وراءه أعظم محرك صنعه الإنسان و حسابات بنكية فارغة.
كتب رودلف ديزل في سنة 1913 قبيل وفاته الغامضة: " أنا متأكد تماما أنه سيأتي يوم تستعمل فيه السيارات محركي، حينئذ سأعتبر أن مهمتي في الحياة قد اكتملت."